فصل: مطلب: في ثمار الجنة ونسائها وأهلها وضرب المثل والعهود التي أخذها اللّه على خلقه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: في المثل لما ذا يضرب وما هو الرعد والبرق وضمير مثله:

والمثل تشبيه الشيء الخفي بالشيء الجلي لمناسبة وجامع، ليتأكد الوقوف على ماهية ذلك المشبه نهاية في الإيضاح، وشرطه أن يكون فيه غرابة من بعض الوجوه وقد ضرب اللّه تعالى هذا المثل بالنار لثلاث حكم: الأولى أن المستضيء بالنار مستضيء بنور غيره، فإذا ذهب بقي هو في الظلمة، وكذلك هؤلاء لأنهم لما أقروا بالإيمان من غير اعتقاد في قلوبهم كان إيمانهم مستعار فلم ينتفعوا به، لأن العارية مستردة.
الثانية احتياج النار دائما إلى مادة الوقود، فإذا انقطع طفئت، وكذلك الإيمان محتاج أبدا إلى مادة الاعتقاد والعمل ليدوم، وإلا فينقطع ولم تبق فائدة فيه الثالثة احداث الظلمة بعد النور أشد من الظلمة التي لم يسبقها نور، ووجه تشبيه الإيمان بالنور أنه أبلغ شيء بالهداية إلى المحجّة القصوى والطريق المستقيم وإزالة الحيرة، وكذلك الإيمان فهو الطريق الواضح إلى اللّه، ووجه تشبيه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق فيها لا يزداد إلا حيرة إذ لا يرى كوكبا يستهدي به، ولا جبلا يستقبله، ولا علامة يركن إليها، وكذلك الكفر لا يزداد صاحبه بالآخرة إلا حيرة إذ لا دين يعتمد عليه، ولا عمل صالح يرجو ثوابه، ولا شافع يأمل شفاعته، فيزداد ندمه كما تزداد الظلمات بمجيئها بعد النور.
وهؤلاء المضروب بهم هذا المثل: {صُمّ} عن سماع الحق: {بُكْم} عن النطق به: {عُمْي} عن رؤيته، قد تقطعت قلوبهم وذهب إدراكها لأنهم لما كانوا في الدنيا يصدق عليهم قول القائل:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ** وإن ذكرت بسوء كلهم أذن

وهؤلاء كذلك كتّامون للخير، مذيعون للشر، سماعون للإثم، نطاقون به، بصيرون فيه: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} عن نفاقهم واخلاقهم وكفرهم، لأن الشيطان زيّنه لهم، وإن رؤساءهم حبّذوه إليهم ورغبوهم فيه.
واعلم أنه لا يوجد في القرآن غير ست آيات مبدوءة بحرف الصّاد، هذه والآية 124 الآتية والسادسة من الفاتحة والأولى من ص و19 من الأعلى و53 من الشورى.
ثم مثل لهما مثلا آخر أبلغ من الأول، فقال عز قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} هو كل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل، والمراد به هنا المطر، أي أو مثلهم مثل مطر نازل: {مِنَ السَّماءِ} وهذا لا ينافي القول بأن المطر ينعقد من أبخرة الأرض والمياه، لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء: {فِيهِ ظُلُمات} تقدم معناها في الآية 17: {وَرَعْد وَبَرْق} الذي يسمع من اصطدام السحاب، فهو الرعد والبرق هو الشعلة النارية التي تخرج منه بسبب الاصطدام أو أمر آخر يحدثه اللّه تعالى عند تراكم الغيوم واصطكاكها بعضها ببعض: {يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ} أي أطرافها من إطلاق الكل وإرادة الجزء: {فِي آذانِهِمْ} خوفا وفزعا: {مِنَ} سماع: {الصَّواعِقِ} اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد، وعلى الأكثر أنها هنا قصفة رعد عبارة عن قطعة نارية، وقد ينقض معها قطعة حديد نارية لا تصيب شيئا إلا أهلكته لشدة صوتها أو نارها أو قوة صدمتها أو حدة ما انفصل منها، وهي سريعة الخمود، ولهذا البحث صلة في الآيتين 12: 13 من سورة الرعد الآتية: {حَذَرَ الْمَوْتِ} مفعول لأجله أي خشية أن يموتوا من صوتها أو مما ينفصل منها: {وَاللَّهُ مُحِيط بِالْكافِرِينَ} عذابه محيق بهم لا يفلت منه أحد، لأن الإحاطة تكون من الجهات الأربع، وقد تكون من الشر أيضا: {يَكادُ الْبَرْقُ} من شدة ضيائه: {يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ} يختلسها بسرعة لشدة نوره وقوته، وتراهم: {كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} بهداية نوره: {وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} غاب عنهم نور البرق وفقدوا ضياءه: {قامُوا} وقفوا متحيّرين لعدم اهتدائهم إلى الطريق من تكاثف الظلمات: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ} لشدة صيحة الصواعق وقوة نور البرق عند وميضه: {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} لا يعجزه شيء، شبه اللّه تعالى الكافرين والمنافقين بقوم ماشين في مفازة صعبة في ليلة مظلمة ممطرة مرعدة مبرقة، لا يتمكنون من متابعة المشي فيها، ووجه الشبه هو أن المطر كالقرآن، لأن فيه حياة القلوب كما أن في المطر حياة الأرض، والظلمات ما جاء فيه من ذكر الكفر والنفاق والشرك، والرعد ما خوفوا فيه من الوعيد والتهديد، والبرق هو ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة، فالكافرون والمنافقون يسدّون آذانهم برءوس أصابعهم لئلا يسمعوه فتميل إليه قلوبهم، وإن فعلهم هذا أوجب بخط اللّه تعالى عليهم، ولذلك فإنه سيحيط بهم عذابه في الآخرة كإحاطة الظلمة المذكورة التي صيّرتهم متحيّرين في الدنيا، فيأتيهم العذاب من كل مكان يترددون فيه متحيرين.
انتهت الآيات الواردة في حق المنافقين.
ثم أنزل اللّه الآيات المتضمنة أحكاما وأخبارا متنوّعة، فقال جل قوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ} المكلفون: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وحده، واعلم أن جملة: {يا أَيُّهَا النَّاسُ} كررت في القرآن 14 مرة في البقرة، و3 في النساء، و2 في يونس، و3 في الحج، و2 في فاطر، وواحدة في لقمان، وواحدة في الحجرات، وإن غالب ما يأتي في القرآن العظيم من لفظ العبادة يراد به التوحيد، لأن العبودية التذلل والعبادة غايته، ولا يستحقها إلا اللّه تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ} خلق: {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} من الأمم البائدة والموجودة: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} عذابه وتنجون من عقابه، وهو الإله العظيم: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا} وطاء تستقرون عليها: {وَالسَّماءَ بِناءً} لتستظلوا بها كالسقف المرفوع والبيت المعمور الذي فيه ما يحتاجه البشر والطير والحيوان: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ} المتنوعة المختلفة في اللون والطعم والشكل والرائحة وجعلها: {رِزْقًا لَكُمْ} تقتانون به: {فَلا تَجْعَلُوا} أيها الناس لهذا الرب الكبير الذي تفضل عليكم بتلك الأشياء وغيرها لتشكروه عليها أداء الحقّ إنعامه بها عليكم، وأنتم على العكس تكفرون به وتختلفون: {لِلَّهِ أَنْدادًا} أمثالا وأشباها من صنع أيديكم، وخلق ربكم القائل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} [الآية: 96] من الصافات، أي كيف تعبدونها وتتخذونها أربابا من دونه: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنها لا تستحق العبادة لأنها لا تخلق ولا ترزق ولا تضر ولا تنفع، فلا يليق بكم أن تشبهوها بإلهكم الفاعل لذلك كله، الرحيم بكم وبما ملكت أيمانكم، الذي لا مثيل له ولا نظير: {وَإِنْ كُنْتُمْ} أيها الناس: {فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا} محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب من القرآن الذي هو كلامنا الأزلي بواسطة أميننا جبريل: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} وهذا من باب التعجيز وإلقامهم الحجر على حد قوله تعالى: {فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ} [الآية: 257] من سورة الأنعام، أي إذا شككتم به فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن الذي يتلوه عليكم رسولنا بفصاحتها وبلاغتها وإعجازها ودلالتها على المعاني الكثيرة من رجل منكم مثل محمد الذي لا يحسن الكتابة والقراءة ولم يتعلم من أحد لأنكم عرب مثله وتدعون المعرفة.
وأنى لهم ذلك إذ لا يستطيعون الإتيان بمثل شيء من القرآن ولو اجتمعوا واستعانوا بمن شاءوا، هذا على أن الضمير: {مِنْ مِثْلِهِ} عائد على محمد صلّى اللّه عليه وسلم وعلى قول من أعاده من المفسرين على القرآن، لأن مجرى الكلام فيه، لأن اللّه تعالى يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا} ولم يقل في عبدنا ليعود الضمير إليه، ولقوله في سورة يونس: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [الآية: 38]، أي بالإعجاز والاشتمال على طرفي الإيجاز والإطالة في الفصاحة والبلاغة، من أنه تارة يأتي بالقصة باللفظ الطويل ولا يمكن للبشر أن يسقط منه حرفا واحدا لأنه قد يخل في المعنى، ثم يعيدها باللفظ الوجيز، ولا يستطيع البشر أن يزيد حرفا واحدا فيه ولا يخل بالمعنى الأول، وهكذا جميع القرآن لا يقبل زيادة حرف ولا نقصه، وإن أساليبه تفارق أساليب الكلام، وأوزانه تخالف أوزان الشعر، ونظمه يباين نظم الخطب والرسائل، فقد جاء على أسلوب بديع ونظم عجيب، ولهذا تحدثوا فيه وعجزوا عنه وتحيروا فيه واعترفوا بفضله، وهم معدن البلاغة ومنبع الفصاحة وفرسان البيان.
ولا يقال إن من في هذه الآية زائدة إذ لا يستقيم المعنى إلا بها إذا أعدت الضمير على سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم على الوجه الأول، وإذا أعدته على المنزل على محمد كان حرف الجر مؤكدا، وقد أشرنا أول سورة البلد، وفي الآية 12 من سورة الأعراف، إلى أنه لا يجوز القول بزيادة شيء في القرآن، كما لا يجوز نقص شيء منه حتى حرف ما التي بعد إذا مثل: {إِذا ما جاؤُها} وغيره لا تعد زائدة، إذا أنها تبقى في الإثبات ثم النفي لأنهم لم يأتوها باختيارهم بل سبقوا إليها فسرا، فهي وإن كانت للثبوت فقد أتى بالنفي فيها ليبقى ثم أيضا، أي أنهم جنحوا عن اليقين إلى التقوى، وذلك شأن المؤمن الورع: {وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ} من جحافل العرب وأولياء أصنامكم الذين تستشهدون بهم على أنها آلهة: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ليشهدوا بأنكم تأتون بمثله: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} في دعواكم أن محمدا يأتي بالقرآن من نفسه أو بتعليم من غيره من البشر، والمراد من هذا إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت، كأنه قيل قد تركنا إلزامكم بشهداء الحق وملنا إلى شهدائكم المعروفين بالذبّ عنكم، فإنهم أيضا لا يشهدون لكم على ذلك حذرا من اللائمة، وأنفة من الشهادة الباطلة، وخوفا من أن يصموهم بالكذب، لأن أمر إعجازه ظاهر، وعجز طوق البشر عن الإتيان بمثله واضح: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} بأن تأتوا بسورة مثل هذا القرآن أو بسورة من مثل محمد وقد عجزتم عن ذلك قبلا إذ تحديناكم بسورة واحدة أو بعشر صور منه كما في الآية 39 من سورة يونس والآية 11 من سورة هود المارتين، وتحدينا الخلق كافة بالإتيان بمثله في الآية 89 من الإسراء، أو بحديث مثله كما في الآية 34 من سورة الطور، ولم يستطع أحد أن يأتي بشيء من ذلك، ولهذا فإنكم عاجزون أن تفعلوا: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} أبدا في الحال ولا في الاستقبال ولن تقدروا على الإتيان بشيء مثله البتة، وإذا كان كذلك فتحققوا أنكم مبطلون في دعواكم أن محمدا يأتي بالقرآن من نفسه أو من جهة الغير، وإن ما تعبدون من الأوثان ليسوا بآلهة: {فَاتَّقُوا النَّارَ} أيها الناس مصير المبطلين: {الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ} ومن جملتها أصنامكم وهذه نار مخصوصة واللّه أعلم، لأنه كما أن الجنة أنواع فالنار كذلك.
واعلموا أن لا وقاية لكم من هذه النار إلا أن تؤمنوا باللّه وحده وتصدقوا رسوله وتذعنوا لما جاءكم به، وإن أصررتم على كفركم فمأواكم تلك النار، لأنها: {أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} الذين يموتون كفارا، هذا ولابد لك أيها القارئ من مراجعة الآيات الأنفة الذكر من يونس وهود والإسراء والطور، لتعلم أن لا ناسخ ولا منسوخ بينها وبين الآية المارة، وتعلم التوفيق بينهما خلافا لما قاله بعض المفسرين.
قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} مع إيمانهم ورجاء ثواب ما عملوه من الخير واعتقادهم أن اللّه مجازيهم عليه بأحسن منه إذا أخلصوا للّه وصبروا على ما أصابهم في هذه الدنيا: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} في الآخرة، وهذه الأنهار تجري بلا أخدود بخلاف أنهار الدنيا الجارية في الأودية، وأصحاب هذه الجنات: {كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} وطلبوها ثانيا.

.مطلب: في ثمار الجنة ونسائها وأهلها وضرب المثل والعهود التي أخذها اللّه على خلقه:

واعلم أن الطلب في الجنة عبارة عن خطرة في القلب، لأن اللّه تعالى لا يحيجهم إلى التكلم كرامة لهم: {قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ} فيظنونها هي نفسها لكمال التشابه في اللون والشكل والحجم والرائحة والطعم: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا} كأثمار الدنيا من حيث الاسم فقط والكنى ليس إلا ولكنها مختلفة في الطعم والحجم واللون والشكل والرائحة، فالفرق بين ثمار الدنيا والآخرة عظيم كالفرق بين الدنيا والآخرة، وفضلا عن هذا فإن أثمار الآخرة لا فضلات لها ولا تفل فيها ولا قشور ولا بزر، وكذلك سائر مأكولات الآخرة ومشروباتها: {وَلَهُمْ فِيها أَزْواج مُطَهَّرَة} من الأوساخ والأرجاس المادية والمعنوية من كل ما يقع عليه النظر والشم واللمس وما يصل إلى السمع، فلا يحضن ولا يبلن ولا ينفسن ولا يتغوطن ولا يعصين أزواجهن، وأمثال هذا مما هو عند نساء الدنيا، مبرآت عن كل خلق سيء، متحليات بكل شيء حسن: {وَهُمْ فِيها خالِدُونَ} لا يحولون عنها أبدا، حياة سعيدة لا موت فيها ولا بعدها.
روى مسلم عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبزقون، يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس، طعامهم جشاء أي يخرج فضوله في تنفس المعدة ورشح كرشح المسك، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم أشد كوكب دريّ في السماء إضاءة لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة العود الذي يتبخر به، وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، وعلى صورة أبيهم آدم عليه السّلام، ستون ذراعا في السماء.
وفي رواية لكل واحد منهم زوجتان يرى مخّ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لاخلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، ويسبحون اللّه بكرة وعشية.
ورويا عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إن للمؤمن في الجنة الخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال قلت يا رسول اللّه مم خلق اللّه الخلق؟ قال من الماء.
قلت الجنة ما بناؤها؟ قال لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وبلاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فيقولون لهم أهلوهم واللّه لقد ازددتم حسنا وجمالا فيقولون وأنتم واللّه لقد ازددتم حسنا وجمالا.
وأخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فرقها يكون العرش، فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما} مطلق مثل: {بَعُوضَةً} بقة صغيرة جدا: {فَما فَوْقَها} من الحشرات، لأن القصد منه الاعتبار والاتعاظ والاتباه لا الكبر في ضرب المثل وصغره.
واعلم أن كلمة بعوضة لم تكرر في القرآن، وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا ما يريد اللّه يذكر هذه الأشياء، الخسيسة كالنمل والنحل والعنكبوت والذباب حتى يضرب أيّها الأمثال، فقال تعالى ردا عليهم إن اللّه لا يترك ضرب المثل بذلك، ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها استحياء الحياء تغير وانكار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به أو يعزم عليه، وهذا لا يجوز على اللّه تعالى ولكن لما كان الترك من لوازمه عبر عنه به وجاء بلفظ الاستحياء على سبيل المقابلة، لأن الكفرة على ما قيل إنهم هم القائلون ذلك، وانهم قالوا لا نعبد إلها يذكر هذه الأشياء، وأنهم قالوا أما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بها، وأطباق الجواب على السؤال فنّ من فنون البديع المستحب استعماله في الكلام، والبعوض خلق عجيب له خرطوم مجوف يغوص في جلد الفيل والجاموس، وقالوا إن الجمل قد يموت من قرصه، فلا غرو أن يضرب اللّه به المثل في الصغر، كما يضرب المثل في الجمل في الكبر،
وقد أهلك اللّه تعالى بها من الجبابرة العظام كنمروذ وغيره، وقد ضرب صلّى اللّه عليه وسلم المثل للدنيا بجناحها بقوله لو كانت الدنيا تساوي عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء والجناح دونها، والعرب تضرب الأمثال بالمحقرات فيقولون هذا أحقر من ذرة، وأجمع من نملة، وأطيش وألح من ذبابة، والقرآن نزل بلغتهم فلا معنى لاستبعادهم ذلك.
ولم يقل تعالى فما دونها اكتفاء بأحد الشيئين عن الآخر على حد قوله: {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [الآية: 82] من سورة النحل، وهذا عبارة عن مثل ضربه اللّه تعالى الدنيا وأهلها، فإن البعوضة لا تزال حية ما بقيت جائعة، فمتى شبعت ماتت، وكذلك أهل الدنيا إذا امتلئوا منها هلكوا، وتنطبق على أعمال العباد إذ لا يمتنع أن يذكر منها ما قل وكثر وليجازوا عليه ثوابا وعقابا.
وليعلم أن الحياء غير الخجل ومعناه كما مرّ وهو مركب من الجبن والعفّة والخجل حيرة النفس لفرط الحياء، ولا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء الذي هو انقباض النفس عن القبائح، فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} ضرب المثل بتلك الحيوانات الحقيرة هو: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} لا يجوز إنكاره، لأنه من الأمور المستحسنة عقلا المتعارفة عندهم، ولا مناقشة فيما يذكره اللّه تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} والمنافقون وأمثالهم: {فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا} وهذا من قبل الاعتراض على اللّه تعالى، وليس لمخلوق أن يعترض على خالقه، لهذا فإنه تعالى وتقدس: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} من المكذبين فيزدادون كفرا: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} من المؤمنين فيزدادون به إيمانا: {وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ} الخارجين عن طاعة اللّه ورسوله، المستغربين ما ضرب اللّه به مثلا من تلك الحشرات من حيث لا محل للاستغراب والإمكان، لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى وادناء المتوهم من المشاهد، فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به كذلك، وإن كان حقيرا كان المتمثل به حقيرا أيضا، ألا ترى أن الحق لما كان واضحا جليا مثل له بالضياء والنور، وإن الباطل لما كان غامضا مثل له بالظلمة، ولما كان حال الآلهة المتخذة للعبادة لا أحقر منها مثل لها ببيت العنكبوت الذي لا أومن منه، تأمل.
ثمّ وصف اللّه تعالى هؤلاء الفاسقين بقوله عز قوله: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} الذي أخذه عليهم في عالم الذر، وهو الإقرار بربوبيته كما مرّ في الآية 170 من الأعراف، وهو غير العهد الذي أخذه على الأنبياء بتصديق محمد صلّى اللّه عليه وسلم في الآية 7 من سورة الأحزاب الآتية، وغير العهد الذي خص به العلماء في الآية 187 من آل عمران الآتية.
{مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ} عقده وإبرامه، وتؤكده عليهم بقوله: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ} وقوله في حق الرسول {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} وفي هذه الآية إشارة إلى أن الكفرة واليهود بعد أن يتعاهدوا مع حضرة الرسول ينقضون عهدهم معه، وقد كان ذلك كما سيأتي في محله، وهذا من قبيل الإخبار بالغيب، وفيها تحذير من نقض العهد وتقبيح لناقضه، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا البحث في الآية 91 من سورة النحل، والآية 34 من سورة الإسراء.
{وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ} من الإيمان بالرسل السالفين جميعهم: {أَنْ يُوصَلَ} ذلك الإيمان المتتابع بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم لأن اللّه تعالى أخذ العهد على خلقه أن يؤمنوا برسله إيمانا متصلا واحدا بعد واحد، فلم يمتثلوا أمر اللّه ولم يؤمنوا بجميع رسله، ومن أهل زمانه من اليهود، ولم يؤمنوا به كما لم يؤمنوا بعيسى قبله، وكذلك النصارى لم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم، مع أنه أخذ العهد على كل ملّة من قبل نبيها أن تؤمن بالرسول الذي يخلفه.
{وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} علاوة على نقضهم عهد اللّه وعهد رسولهم وقطعهم ما أمر اللّه بوصله، لأنهم يقطعون السبيل ويسلبون الناس ويعملون المعاصي ويمنعون غيرهم من الإيمان باللّه ورسوله: {أُولئِكَ} الذين هذه صفتهم وهذا شأنهم: {هُمُ الْخاسِرُونَ} المغبونون لاستبداهم النقص بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالإصلاح، والعقاب بالثواب.
قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا} نطفا جامدة ميتة في أصلاب آبائكم، {فَأَحْياكُمْ} في أرحام أمهاتكم عند قذف النطفة فيها، فكونتم وصورتم، حتى إذا أكمل خلقكم وانتهى أمد وجودكم في الرحم ولدتم وترعرعتم وكبرتم: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بعد استيفاء آجال مكثكم في الدنيا: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ثانيا بعد انتهاء أجل لبثكم في البرزخ من قبر وغيره: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فتحضرون إلى الموقف في محل الحشر إذ تحاسبون على ما كان منكم وتجاوزون عليه الخير بأحسن منه، والشر بمثله، وهذا الاستفهام استفهام تعجب من حالهم وإنكار لأحوالهم، أي كيف تكفرون باللّه بعد نصب هذه الدلائل، ووضوح هذه البراهين، وسطوح تلك الحجج على وحدانيته جل شأنه، ثم تشركون به غيره، وتعبدون معه أوثانا لا تستحق العبادة؟ وإن هذه الأشياء التي خصكم اللّه بها لابد أن تدعوا إلى الإيمان لا إلى الكفر، وقيل في المعنى:
أكفر بعد ردّ الموت عني ** وبعد عطائك المائة الرتاعا